عالجنا، في المقال السابق، مشكلة انحسار النقد الثوري، وشرعية النقد، والمحددات التي ينبغي تأبطها عند دخول الحيز النقدي، وعطفْنا على ذلك بكشف وفحص نقدين شائعين ومناوئين لمنطق الثورة الذي نعتقده. ونروم، في هذا المقال، نقد تصورين ظهرا لنا أثناء محاولاتنا تحليل الحِراك الثوري الممتد، منذ لحظة الميلاد في آخر يناير وحتى الوقت الراهن. وذلك تحقيقاً للقصود التي ذكرنا: الوعي وتقويم المسار وتقدير التضحية والبذل.
على أنه قبل الخوض في سرد انتقاداتنا، بما تحمله من تبريرات ودفوع، يتوجب علينا، وإن في عجالة، استجلاء منهجية اختيارنا ذينك التصورين بعينهما للنقد والغربلة. والحال أن اختيارنا قام على عوامل ثلاثة هي الذيوع والتكرار والحسم. فكلما كانت التصورات منتشرة ودأب الثوار على فعلها ومساهمة في البت في مسار الثورة (أو، بالأحرى، فيما وصلنا إليه من تعثر وانتكاس)، كلما اطردت قوة اختيارنا لها عن سواها. كما يتوجب علينا توضيح ما نعنيه بتحليل الحراك الثوري؛ فنحن نركز مساحة تحليلنا حصراً على التصورات، أو جُملة الأفكار الحاكمة، التي فرختها النُخب الثورية، ومن ثم لن نشتغل هنا على التأريخ أو الأحداث.
أولا: التكالب على الصندوق أو خيانة الديمقراطية
"لا للتمديد، لا للتوريث"؛ هذا الشعار الذي رفعته عدة حركات معارضة، مثل حركة كفاية وحركة 6 أبريل وحركة شباب من أجل العدالة والحرية والإشتراكيين الثوريين، قبل ثورة 25 يناير بسنوات، ما معناه؟ إنه يعني، في المحصّلة، انتخابات دورية وحرّة ونزيهة. أو: ديمقراطية انتخابية. من جانب آخر، بما تفيد الاعتصامات التي حاصرت مجلس الوزراء، قبيل الثورة، والإضرابات التي حصلت، والمرافعات التي أقيمت في الصحف وفي ساحات المحاكم من أجل الحد الأدنى للأجور، ورفض تصدير الغاز لإسرائيل وسياسات الخصخصة؟ إن حزمة الأفعال الاعتراضية هذه تخلُص إلى المناداة بالعدالة الاجتماعية والتنمية. أو: بما يسميه سيمور لبسيت Seymour M. Lipset "بعض المقتضيات الاجتماعية للديمقراطية Some Social Requisites of Democracy"، والتي يضعها لاري دايموند Larry Diamond، في كتابه المتميز: روح الديمقراطية The spirit of Democracy، ضمن العوامل الداخلية المحركة للديمقراطية. وهي اعتراضات كانت حاسمة في اندلاع الثورة، ووفقا لفريدريك انغلز Friedrich Engels: "في كل مكان تتناقض فيه بنية السلطة لبلد ما، مع النمو الاقتصادي لهذا البلد" - تُكمل حَنة أرندت: Hannah Arendt - تكون الهزيمة من نصيب السلطة السياسية وأدوات العنف التي تلجأ إليها. أيضا، ماذا يعني الدمج بين المطلبين: الديمقراطية الانتخابية ومقتضياتها الاجتماعية؟ إنه يعني تشغيل محرك الديمقراطية من أجل مزيد من التحقق والتمكين في الحقوق المدنية والسياسية. وحتى نكمل هذه النقطة، لا يرى دايموند العلاقة بين الديمقراطية والتنمية بهذه القوة، فقد تبنت مجموعة من الدول الفقيرة (في آسيا وأمريكا اللاتينية) أنظمة ديمقراطية، كما يخلص من نقاشه الثري لهذه العلاقة إلى إمكانيتين: الإمكانية الأولى تفترض أن التنمية تكثر من فرص التحول الديمقراطي، أما الإمكانية الأخرى فتقضي بدعم التنمية للديمقراطية في أي وقت ظهرت.
تبنّى دعاة 25 يناير الديمقراطية الانتخابية ومقتضياتها الاجتماعية وخاضوا معارك ضروساً من أجل تغيير سياسات الهوية دعماً للحقوق المدنية والسياسية، وضمن معارك الحقوق هذه كان الصدام مع الجهاز الشرطي الفاسد والدموي. بَيْد أن ما ضرب مضمون كل هذه الأطروحات المتبناة في مقتل هو الإصغاء لنداءات التنافسية والانضواء في أحزاب وحركات هرمية، أو قتل الميدان بالمعارك وعدم تطوير ميكانزمات الفعل في ساحات الشوارع، بحيث استطاعت السلطة السياسية تطويق ميكانيزمات الفعل الميداني والتظاهري واستيعابها ودحرها أو استخدامها أو تحجيم آثارها. بأكثر الطرق وضوحاً: الدخول في تنافسية غير عادلة، لا تتوافر فيها (في حالتنا هذه) ما يمكن أن نطلق عليه "بعض المقتضيات الثورية للديمقراطية"، هو خيانة للديمقراطية. ونقصد بعدالة الديمقراطية هنا التعاطي من الانتخابات بعد تمام حد أدنى من إجراءات العدالة الانتقالية، التي تقوم على التفاوض، وتضمن تحييد الجهات المتورطة في القتل والتعذيب والاعتقال القسري. في مثل هذه الظروف، من الوارد جداً حصول مفاوضات مع الحكم العسكري، وهذا أمر حصل في العديد من الثورات، ومن الوارد أيضاً إرغام أطراف سياسية فاعلة وثوروية على الدخول في التفاوض، كما أنه من الوارد تخلي بعض المتحالفين في السلطة عن بعضهم البعض. وكلما تأخرت تيمة "الرفض من أجل التفاوض" (أو: تزامن التفاوض مع الفعل الثوري دائم التشكل غير القار والرتيب) برزت تيمات أخرى كـ"التنافسية من أجل التغيير" و"التغيير بالوكالة".
وعليه تم تقويض سيناريو الحدث الثوري ثم التفاوض (الذي يشتغل على إجراءات عدالة انتقالية بإدارة تقتسمها القوى الثورية والنظام القديم) ثم الانتخابات، من قبل الجانب الثوري الذي نأخذ على عاتقنا نقده في هذا المقال، تم تقويضه بطريقتين: الانطلاق من رؤية صلبة تجاه الفعل الثوري تخنقه في الميدان والتظاهرات وتُعملق صيغة الـ 18 يوماً، أولا، واستدعاء الموروث القديم الذي يقول بدخول حلبة التنافسية بغض النظر عن عدالة المعايير والإجراءات، ثانياً. وبمرور الوقت استطاع مديرو المراحل الانتقالية كما استطاعت النخب القديمة فرض إرادة التنافسية غير العادلة. وبهذا أديرت المعركة من خلال ميدان فاقد الصلاحية أو صندوق مسرطن.
صفوة القول: عدم حسم ملف العدالة الانتقالية، وهو ما نعنيه بقولنا: التخلي عن مقتضيات الديمقراطية، لا ينبغي النظر إليه باعتباره صنيعة السلطة القديمة وحدها. كذلك عدم السعي للتفاوض (الذي من أسسه التخلي عن الثأر مقابل وقف سفك الدماء)، واللعب على تيمات أخرى عجّل بخفوت الصوت الديمقراطي، وكرّس في الوعي نموذج "انتخابات بلا ديمقراطية Elections without Democracy" وساهم في تأسيس نظام شمولي منتخب، نظام محمد مرسي، الذي تمت الإطاحة به فيما بعد. وغني عن البيان أننا نعرض الديمقراطية كسيرورة دائمة التشكل والتمرحل.
ثانيا: العنف على الطريقة الهذائية
تُعد العقلانية أحد أهم المعايير الفلسفية للدولة (من المفيد هنا الرجوع لهيغل وماركس وماكس فيبر). فالدولة وفقاً للبعض ليست مجرد "كيان عقلاني" بل هي "الكيان العقلاني"؛ مثال الأنا العقلانية الحداثية، حيث تقوم بهذه العقلنة من خلال جيشين: جيش عسكري (القوات النظامية المسلحة)، وجيش مدني (البيروقراطية). فالضبط، والمراقبة، والمعاقبة، والقمع...، كلها تصرفات يفترض أن تتم بقدر عال من التعقل الذي يميز بين السلطة والقدرة والتسلط والعنف والهيمنة، إلخ. لكن، هل تفقد الدولة عقلها؟ الجواب: مستحيل؛ فالعقلانية ليست واحدة من صفاتها، بل هي ماهيتها، لو تجاوزنا الخلافات المنطقية واعتقدنا في الماهيَّات. حتّى البَله والعَبط الدولتي يجب أن يتم بقدر مناسب من التخطيط العقلاني، وحين تزداد رقعة كل ما هو هزل وهذي تشعر الدولة بالإهانة، أو بما يمكن دعوته تهديداً وجودياً! أيضاً، وفي حال استعملنا "مفهوم المخالفة"، قبل رفع السلاح في وجه الدولة (التي تحتكر الإستعمال الشرعي للعنف) ثمة سؤال بديهي يطرح نفسه: لماذا يُستخدم العنف ضد الدولة؟! لا توجد سوى إجابة واحدة "عقلانية" ومقنعة: من أجل تدمير الدولة الحالية وإخضاعها! فأي إجابة أخرى ستكون في عداد الأجوبة غير المسؤولة وغير الناضجة التي تنم عن جهل أو انتقادات أخلاقية غير عملية. ولن نجد هذا الجواب الصحيح الصريح، في السياق المصري، إلّا عند جماعات العنف الإسلامي، في سبعينات وتسعينات القرن المنصرم، التي رأت السيطرة على الدولة من خلال الاستحواذ على آلة العنف. وبأخذ ذلك كله في الاعتبار، كيف قرأ الثوار سؤال العنف؟!
كذلك قبل الجواب على السؤال هذا، دعونا نحلل موقف غير الثوريين من القوات المسلحة، نظراً لما قد يكشفه لنا من ارتباطات عند الجواب على سؤال العنف.
تنتشر في ربوع الجمهورية مقولة إن مصر لا يصلح لحكمها سوى العسكري، ووفقاً لباحثين فإن هذه المقولة بلورت نفسها في دول العالم الثالث، عقب الحرب العالمية الثانية، وسطعت في ستينات القرن العشرين، ويعبر عنها أفضل تعبير إدوارد شيلز Edward Shils حين يقول: "إن سيطرة العسكر على الدول حديثة الاستقلال سيمكنها من تطوير مجتمعاتها وبالتالي الحفاظ على سيادتها"، وبن هلبرن Ben Halpern عند حديثه عن الشرق الأوسط: "الجيش أقوى الفرقاء السياسيين العاملين على الساحة ويمثل بدوره السياسي تطلعات وآمال الطبقة الوسطى حديثة التكوين". وكما هو واضح فالمقولة هذه تحمل في داخلها نقيضها لأن مرور كل هذه العقود تحت حكم العسكري لم يحقق لا التطوير ولا السيادة كما لم يشبع آمال وتطلعات لا الطبقة الوسطى ولا ما هو أقل منها. ولكن، ورغم ذلك كله، حكم الواقع يقرر أنه رغم كل ما يعتلج المؤسسة العسكرية من فساد وسطحية في مفاهيم الضبط والربط إلّا أنها (خصوصاً في ظل مجتمع مدني هش وقطاع خاص متخم بالمشكلات وقطاع عام فاشل) تبقى أقوى مؤسسة في مصر من ناحية القرار السياسي والاقتصادي.
عود على بدء، لم يتعاط الثوار بشكل جدي مع سؤال العنف، فضلاً عن سؤال الدولة وسؤال المؤسسة العسكرية، واستمروا في أداء يخون الديمقراطية (التكالب على المنافسة غير العادلة، وهو ما حللناه في النقطة السابقة) ويخون منطق الثورة الطوعي التواطؤي الشبكي (اللجوء إلى العنف، فضلاً عن العنف الهذائي غير العقلاني). بهذا انقسم الثوار إلى فصيلين: فصيل يتخلى عن الديمقراطية وآخر يتداخل بعنف غير محسوب وغير معروفة آفاقه وممكناته. بينما كانت رؤية الفصيل الضد ثوري واضحة وصحيحة بقدر ما هي عمياء وخاطئة.
في ختام تحليلنا نود التأكيد على ثلاثة أمور؛ أولا: آثرنا، عن وعي، ترك بعض الكلمات والعبارات على حالتها الفضفاضة وغامرنا بتعميمات، بل إن بعض ما ذكرناه يستمد نفوذه من عموميته وفضفاضيته، ولا يفهمن أحد أن هذا الأمر يُراد به مصادرة النقد أو التقويم. ثانياً، ما طرحناه يقوم على ازدواجية تتفاعل فيها رؤية بأثر رجعي مع محاولة لإعادة العيش في نفس الأجواء الفائتة. أخيراً، كان همنا عند كتابة هذه الكلمات، بالإضافة إلى القصود التي عرّفنا بها، دعم الديمقراطية بشكل جذري وفعال بدون أي ضغوطات تبشيرية أو طوباوية.
المراجع
الزواوي بغوره، مدخل إلى فلسفة ميشيل فوكو (لبنان: دار الطليعة، 2013).
حنة أرندت، في العنف، ترجمة: ابراهيم العريس (انجلترا؛ لبنان: دار الساقي، 1992).
عبد الله العروي، مفهوم الدولة (المغرب؛ لبنان: المركز الثقافي العربي، 2011).
عزمي بشارة، في المسألة العربية - مقدّمة لبيان ديمقراطي عربي (لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010).
فؤاد إسحق الخوري، العسكر والحكم في البلدان العربية (انجلترا: دار الساقي، 1990).
لاري دايموند، روح الديمقراطية - الكفاح من أجل بناء مجتمعات حُرّة، ترجمة: عبد النور الخراقي (لبنان: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2014).